هل تساءلت يومًا كيف تتحول المؤسسات العادية إلى قلاع راسخة تتكيَّفُ بسرعة مع أيِّ تغيير؟ يكمن السِّر في قدرة هذه المؤسَّسات على تحويل التَّحدِّيات إلى فرص، وقدرتها – منقطعة النَّظير – لترويض الأخطاء وتحويلها إلى مكاسب. لذلك، فإنَّ رحلة التَّحوَّل المؤسَّسي ليست مجرَّد مغامرة بسيطة؛ بل هي مسار مليء بالتَّحدِّيات والعقبات التي تتطلَّب مرونة فائقة تتعدَّى المستويات العاديَّة. مع بداية هذا الطريق، يشتعل الحماس وتندفع المؤسَّسة بقوة لتحقيق أهدافها الطَّموحة، ولكن سرعان ما تصطدم بواقع مليء بالعثرات والأخطاء؛ حيث أنَّ كل عثرة تصبح بمثابةِ ضربة بمطرقة الفشل، تُعَمِّق من أوتاد التغيير في أرض الواقع، مُعَزِّزة من صلابة المؤسَّسة وقدرتها على مواجهة ما ينتظرها في المستقبل بصلابة وثبات.
في هذه العملية، يتحوَّل التَّعلُّم من الممارسات والتَّجارب إلى مصدر للوعي التَّنظيمي والنُّضج الدَّاخلي، ممَّا يمكِّن المؤسَّسة من التَّقدُّم بخطوات ثابتة نحو تحقيق الأهداف المحدَّدة. حيث تتميَّز مراحل التَّغيير بكونها تعكس تجارب المؤسَّسات في سعيها للتَّطوُّر ومدى نجاح الخُطوات المتَّخذة في سبيل التَّغيير. تبدأ تلك المراحل بفترة من الاندفاع والتَّجريب، تليها مرحلة من التكيُّف والتَّحسين، وصولاً إلى مرحلة النُّضج حيث تكون الأهداف واضحة والتَّحقيق الفعَّال لها هو السِّمة المميَّزة. حيث يُعد التَّعلُّم من الأخطاء والتَّجارب هو المفتاح الأساسي للنَّجاح والاستمراريَّة، حيث تكون الأخطاء ضربات بمِطرقة الفَشل، تصقل المؤسسات وترسِّخ أسس التَّغيير بشكل أقوى.
المرحلة الأولى: الاندفاع والتَّجريب
في بداية عمليَّة التغيير، تتَّسم المؤسسة باندفاع قوي ورغبة جامحة في خوض مرحلة جديدة بتمُّ تغيير فيها ما يمكن تغييره، حيث تُعتمد في هذه المرحلة استراتيجيَّات متعددة وغير تقليدية (هناك نسبة فشل فيها إلى حدٍّ ما). هذا الحماس والاندفاع غالبًا ما يؤدِّيان إلى وقوع العديد من الأخطاء والتَّخبُّطات. على سبيل المثال، قد تقوم المؤسَّسة بتجربة تكنولوجيا جديدة دون إجراء تجارب ميدانيَّة كافية، أو تطبيق سياسات جديدة دون تقييم شامل لتأثيرها على العمليَّات الداخليَّة.
هذه الأخطاء والعثرات تُعتبر فرص ذهبيَّة لزيادة الوعي التَّنظيمي بداخل تلك المؤسسة ولكن يتطلَّب ذلك وجود من يروِّض هذه الأخطاء. يتمُّ ذلك من خلال تحليل هذه الأخطاء وتحديد أسبابها، لتستطيع المؤسَّسة بذلك تحسين استراتيجيَّاتها ومنهجيَّاتها. إضافةً إلى ذلك، ينبغي على الإدارة العُليا أن تركِّز على تطوير نظام تقارير وتحليلات دقيقة لتتبُّع الأداء، وتبنِّي منهجيَّة التَّحسين المُستدام مثل Kaizen (منهجية كايزن) أو Lean Management (الإدارة الرشيقة)، حيث يتمُّ تشجيع العاملين على تقديم ملاحظاتهم وأفكارهم لتحسين العمليَّات بداخل تلك المؤسَّسة.
المرحلة الثانية: التَّكيُّف والتَّحسين
بعد مرحلة التجريب، تبدأ المؤسَّسة في التَّكيُّف مع الدُّروس المستفادة من الأخطاء والخبرات والتَّحديات السَّابقة، حيث أنَّ هذا التَّكيُّف يؤدِّي إلى تقليل الأخطاء وتحسين الأداء بشكلٍ ملحوظ. خلال هذه المرحلة، تنمو قدرة المؤسَّسة بشكل متسارع على التَّعامل مع التَّحدِّيات بفعاليَّة وإنتاجيَّة أكبر. على سبيل المثال، إذا كانت المؤسَّسة قد واجهت صُعوبات في تنفيذ نظام تكنولوجيا المعلومات الجديد، فإنها تبدأ في إجراء تعديلات دقيقة على هذا النظام بناءً على الملاحظات والبيانات التي تم جمعها خلال المرحلة الأولى.
تتمثَّل هذه المرحلة في تحسين العمليَّات، وتعزيز ثقافة التَّعلم المستمر والمُستدام، وتبنِّي الابتكار كأساس للتَّطوُّر والنُّمو بداخل المؤسسة. من الضَّروري أيضًا هنا، تعزيز الفرق والأفراد من خلال التَّدريب المستمر والتَّطوير المهني، وتوفير بيئة تشجِّع على التَّفكير الإبداعي وحلِّ المشكلات. في حين أنَّ استخدام أدوات التحليل البياني مثل Six Sigma و Root Cause Analysis (تحليل السبب الجذري) في هذه المرحلة، يعدُّ أمرًا مهمًّا جدًّا لتحديد مصادر المشاكل والتَّوصُّل إلى حُلول فعَّالة.
المرحلة الثالثة: النُّضج المؤسَّسي والتَّحقيق الفعَّال للأهداف
تصلُ المؤسَّسة في هذه المرحلة إلى مرحلة النُّضج، حيث تكون الأهداف واضحة والسَّعي نحوها يكون مَدروسًا ومنظَّمًا بطريقة دقيقة. هنا، تصبح الأخطاء أقل بشكلٍ ملحوظ، ويصبح التَّعلُّم عمليَّة مستمرة ومتجذِّرة في الثَّقافة المؤسَّسيَّة. هذا التحوُّل يعزِّز من قدرة المؤسَّسة على الابتكار والنُّمو المستدام، مما يمكِّنها من تحقيق الأهداف بكفاءة وفعاليَّة عالية.
في هذه المرحلة، يُفضَّل أن تضع المؤسَّسة استراتيجيَّات واضحة تتضمَّن مؤشِّرات الأداء الرئيسيَّة KPIs (مؤشِّرات الأداء الرئيسيَّة) وأهداف محددة، مع مراجعة دوريَّة لهذه الاستراتيجيَّات لضمان تحقيق الأهداف بشكل دقيق وبكفاءة عالية. على سبيل المثال، يمكن للمؤسَّسة أن تعتمد على تقنيَّات Balanced Scorecard (بطاقة قياس الأداء المُتوازن) لتقييم الأداء الشَّامل وتحقيق التَّوازن بين الأهداف الماليَّة وغير الماليَّة. كما يجب تطوير نُظم دعم القرار التي تعتمد على التَّحليل البياني والتوقُّعات المستقبليَّة؛ لضمان اتِّخاذ قرارات استراتيجيَّة مدروسة.
الخُلاصة ..
تستمر المؤسَّسة في التِّكرار والتَّعلُّم الممنهج من التَّجارب والخبرات السَّابقة وإسقاطها على الأحداث والمواقف الآنيَّة، ممَّا يساعدها على الانتقال إلى مستويات أعلى من الكفاءة والنجاح. هذا الانتقال يتطلَّب مراجعة دوريَّة للاستراتيجيَّات، والمرونة في التَّكيُّف مع المتغيِّرات، والاستثمار المستمر في بناء قدرات الأفراد والفرق داخل المؤسَّسة. بالإضافة إلى كلِّ ذلك، يجب على المؤسَّسات أن تتبنَّى مفهوم Agile Management (الإدارة الرَّشيقة)، الذي يتيح لها الاستجابة السَّريعة للتَّغيُّرات والتَّحدِّيات، مع الحِفاظ على مرونة عالية في تنفيذ الاستراتيجيَّات.
رحلة السَّعي نحو التَّغيير المنشود في المؤسَّسة؛ تعتبر رحلة طويلة وشاقة، وتتطلَّب بطبيعة الحال صبرًا وإصرارًا كبيرين من قبل المسؤولين في تلك المؤسَّسة. حيث أنَّ هذه الرحلة تبدأ باندفاع قوي ورغبة جامحة لتحقيق الأهداف، ولكن مع مرور الوقت، تدرك المؤسَّسة أن النَّجاح ليس مجرَّد وصول إلى هدف معيَّن، بل هي عمليَّة مستمرة وتكامليَّة بين العناصر المختلفة التي تؤدي لنجاح كبير في عمليَّات التَّحوُّل والتغيير، ويتم فيها ارتكاب العديد من الأخطاء، ولكن هذه الأخطاء والتَّخبُّطات هي جزء لا يتجزأ من هذه العمليَّة؛ فهي ليست إلا خطوات تخطوها المؤسسة وتستفيد منها بما يسمى بالتَّغذية الرَّاجعة، وهو ما يقربها أكثر فأكثر من تحقيق التغيير المنشودة.
إنَّ التَّغيير ليس نهاية بحدِّ ذاته، بل هو رحلة مستمرَّة بمنهج معيَّن (مرن)، ينبثق منها شرط للمؤسسة، وهو القدرة على التكيف مع المتغيرات واستغلال الفرص للتعلُّم بما يسمَّى بالتَّغذية الرَّاجعة والنمو المستدام للمؤسسة. ويتمُّ ذلك من خلال إعادة تشكيل الأخطاء إلى دروس، والعثرات إلى فرص لتعزيز نمو المؤسسة. ولابدَّ من التَّذكير؛ بأنَّ النجاح الحقيقي يكمن في القدرة على تحويل التحديات إلى مكاسب، والاستفادة من التجارب لبناء استراتيجيَّات أقوى وأكثر فاعليَّة.
تُعدُّ رحلة التَّغيير المؤسَّسي مغامرة حقيقيَّة مفعمة بالتَّحدِّيات، ومليئة بالفرص التي لا تعدُّ ولا تحصى. وكما أقول دائمًا بأنَّ؛ كلَّ ضربة بمِطرقة الفشل هي خطوة مهمَّة نحو ترسيخ أوتاد النَّجاح لتقوى بذلك أساسات تلك المؤسَّسة. ومن خلال تقوية الأساسات، والإصرار على الوصول، والاتِّكاء على قاعدة صلبة، يمكن للمؤسَّسات تحقيق التَّحوُّل المنشود والوُصول إلى قمَّة الأداء والابتكار بداخل المؤسَّسة. لذلك لابدَّ من العمل، والاجتهاد، والإصرار؛ لتكون النَّتيجة هي بناء مستقبل راسخ ومُستدام للمؤسَّسة، يخدم التَّطلُّعات المنشودة.